تجليات الخمر والفقر في باحة الشاعر الكردي فايق بيكةس
د.رؤوف عثمان
يتسع
المنتج الشعري لفايق بيكةس إلى محاور متنوعة الحقول والأطراف والمقاصد، لكني
أركز هنا على مباحث شعرية ثلاث، هي: القضايا القومية، الفقر، الخمر، إذ أمرُ على
هذه المحطات الشعرية سراعا أستجابة للزمن المخصص لبحثي هذا.
يفتحبيكةس بوابات
شعره على أوجاع وطنٍ يئن من غائلة الجوع والأمية والأحتلال البريطاني المقيت، إنه
يطير بأجنحة قصائده النورانية فوق مساحات شاسعة من كردستان مزقتها معركة ضالديران واتفاقية
سايكس بيكو و لوزان اللعينة، يود بيكةس ان يجد للكرد مساحة مضيئة بالفن الشعري
والفكر التقدمي التحرري، اذ يجاهد أن يضبط إيقاع حركة الجماهير في السليمانية
خاصة، وأنحاء من كردستان عامة بمعين فكره وزاد عقله النيّر المتجسد في قصائده
الوطنية وأناشيده القومية التي نظمها لفتيان كتًابه ، حيث أقفله سماسرة النظام
الملكي، ان مشاعر بيكةس القومية والوطنية هيّاجة حدّاً تسدّ أمامها
الأهتمام بشعرية الكلمة والخيال المتوهج الخلاّق.
لنسمع
بعضا من مكابداته القومية ذات السمة النثرية والخطابية المباشرة:
برهن الكرد لشعوب
البسيطة
انهم شعب بواسل ينبغي
ان يعيشوا أحرارا
شعب يقف أبناؤه أمام
المشنقة
دون وجل مبتسمين خُيلاء
يظل حيا شامخ الهامة
رغم أعداءه الحاقدين
يقول
أدونيس (الشعر رؤيا بفعل، والثورة فعلٌ برؤيا) فالتحول النوعي من مساحة الرؤيا إلى
بؤرة العمل النضالي همُّ الشعراء الكبار في التأريخ النضالي للبشر، فالجواهري
وناظم حكمت وكوران ولوركا وبيكةس، نماذج شامخة من تجليات الفكر وملاذات
الروح الثائرة في تأريخ النضال الأنساني للوقوف بوجه المظالم والأحتلال، اذ ثمار
شعر هؤلاء تهدم مرة وتبني في نفس اللحظة عالما متخيلا مُبشراً به مرة أخرى، فالشعر
الثوري لبيكةس يسهم في
خلق الحالة الشعرية التي تملك طاقة روحية لتحقيق الحلم ونشر مناخ حالة الغضب
والأهواء الجامحة وأجتياح مسافات الأختيار والقرار والمواجهة، انه ينطوي على معنى
التحدّي بكل مفرزاته السياسية والفكرية.
انبيكةس يواجه
البريطانيين الذين يركزون على وأد الروح القومية والأنكفاء الكردي في زمن التحدّي
والمواجهة، فعن طريقة الحوار الأيحائي لفتيان مدرسته يقول:
من
أنت؟
أنا
كردي… من قومية كردية
هل
أنت جبان؟
كلاّ…
حاشا… أنا البطل
كيف
تتحرر؟
بالأتفاق
هذا
الحوار المباشر يذكّرني برائعة محمود درويش (سجل أنا عربي) وهو الوقوف البطولي
بوجه الصهاينة، إذ الظالم هو الظالم والمظلوم هو المظلوم مهما تباعدت الأماكن
والأزمان.
انبيكةس شاهد حي
على أحداث زمانه، لا بمعنى تدوين الوقائع والأحداث، بل بمعنى المساهم الفاعل في
تحريك الحدث التأريخي، وكشف مسببات ارهاصاته وأستشراف آماده، بمعنى التعاطي مع روح
الأنسان المتوهجة، وحثه على إيقاد جذوة الأمل في مدلهم الحياة. أكاد أن أقول إذا
كان عصر التنوير الفكري عند الكرد يبدأ احمد خانى وحاجى قادر كويي، فأن بيكةس له قدحه
المعلّى، حيث أوصل إشعاعات الفكر التنويري الى قمة التحريض، إذ ربط الخلاص من
الأجنبي بالوعي السياسي ونبذ الخرافات والحث على التعلم ووحدة الصفوف.
لقد
توحدت شخصيته الشعرية مع صوت الداعية، حيث وجد نفسه مسؤولا ومصلحا، فأقحم في شعره
نبض الأنبعاث والنزعة البطولية والرسالة الأجتماعية، ان الأحساس بهذه المسؤولية
التأريخية يعمق عنده روح الأغتراب، لاسيما عند ارتطامه بطبقات متخلفة لا تلبّي هتاف
روحه و ومضات ندائه الهائج، ففي انتفاضة ايلول 1930، يقود الجموع البشرية لرفض
مهزلة الأنتخابات، حيث جرح وزج به في السجن. لقد وقف بيكةس وقفته
البطولية الشهيرة بوجه (أدمونس) الحاكم السياسي للأمبراطورية التي لاتغيب عنها
الشمس وتحدّاه بقصيدته الشهيرة (سبع وعشرون سنة)، انه ثائر قبل ان يكون شاعراً،
حيث إلتبست ثوريتهُ بشاعريته، فأحتوت الأولى الثانية، اذ تحرر دون وجل من التقاليد
القديمة البالية والسلوك المألوف، فجنونه الشعري المتحرر من عقال الفنية والشعرية،
بمثابة رفع الحواجز بين وجعه الفكري وشرائع الأنسجام المتوارث، حيث شق طريق
اللامألوف الأجتماعي نحو الخلاص من ركامات المعهود المتبقي، فالتصدع النفسي والقلق
الملازم لروحه المعذبة أوصل قدرته الذهنية ونزعته البطولية الى الأنكفاء المتجسد
في الهزائم التي منيت بها الحركة القومية الكردية آنئذٍ، لم يتمكن بيكةس ان يوفق
بين الوظيفة الأجتماعية والقومية والرؤية الفنية، اذ اختلت المعادلة وكدرت اللوحة
الشعرية بألوانها وظلالها، وأنحدر في هذه الأغراض نحو الخطاب المباشر والنثرية
الواضحة.
لقد
شدّ بيكةس بعضا من
قصائده بوهج الخمر وتجليات السكر، ودبيب الخمر السحري نحو أعماق الروح، حيث ظل
النبيذ جرحا عميقا يمتص لواعج فؤاده. احيانا تروّضُ المدام حدوة فرسه الجموح، بل
ويضبط وجيب روحه المعذبة، انه ينقاد الى رائحة الخمر كالجائع الشره نحو كسرة خبز.
ربما
تعيد المدام ومجالسها وأجواؤها بعض التوازن الى عالمه المسكون برائحة الفقر والثورة،
ان بيكةس لم يعشق
الخمر في ذاتها كمادة مُغيّبة للوعي، بل كبلسم يداوى بها جراحات قلبه المكتوي بنار
واقع يفرض سطوة الأمية والفقر والتخلف الأجتماعي والسياسي، حيث ترتطم نداءاته
وقصائده القومية والوطنية بآذان صماء وتخلف مابعده تخلف، هذه العلاقة اللا متوازنة
بين المرسل والمتلقي, بين مبدع ثائر سبق عصره ومتلق أميّ متخلف يتمخض عنه الأغتراب
الروحي والسياسي والأجتماعي، ازاء هذه الحالة الأحباطية تسد بوجهه كل المنافذ، حيث
يلوذ طائعا خائبا برشفات حتى من الخمر الردئي الرخيص التي تثير عاطفته الجريحة
لتصبّ اللعنات لا على الأجنبي المحتل فقط، بل على مجتمعه الغارق حتى الآذان في
التخلف والأمية. يقول الشاعر:
أعاقر الخمر كي تصفو
روحي
وأغفل عن أخبار الدنيا
السافلة
كم تعذبت بعقلي
أنا أشرب الخمر كي أكون
أحمق فاقد الوعي
هنيئاً.. مريئاً
لتناولك الرز والبامية
أمّا أنا فأتضرر
بمعاقرة المدام
لكني أفضل كرسي الخمَارة
على سلطان قيصر
لاحظوا
كيف تتعرى روح بيكةس وتنطق عالم
لاشعوره تحت تأثير السكر، فالخمر عنده جرح ومبضع، داء ودواء، فحينما يصحو من
نشوتها يتلاشى سلطانها اللذيذ المنعش كسحابة صيف، حيث يعود بخفي حنين من الأحضان
الدافئة المتخيلة الى عالمه البائس البالغ الهشاشة، فمن هول صدمة الصحو والواقع
الفاجع يعود الى صبّ اللعنات والشتائم، مرة و الايغال في أوهام العبث مرة أخرى .
يقولبيكةس:
أيها
الساقي
عليك
بوصيتي
إن
متُ لا تبكوا عليّ
اغسلوني
بالنبيذ
لا
تقرؤا علي التلقين وسورة الياسين
غنّوا
وأرقصوا وأحتفلوا
كي تجيشَ عظامي وتبعث
من جديد
يحس
المرسل أليه بتلاقي بعض من رؤى بيكةس وعمر الخيام وأبو نؤاس في لاجدوائية
الحياة، لكنه يحيد عن هذا المسار حينا ويعود اليه حينا آخر، حيث يربط موته بسعادة
الآخرين وأفراحهم، وتنفخ ابتسامة البشر دبيب الحياة في رميم عظامه وهمود جثته، ان
الخمرة عنده خيوط سحرية تربط لا بينه وبين الآخرين فحسب، بل بينه وبين الأجيال في
آماد الزمان.
يقولبيكةس:
ان كنت راضيا بقليل من
الخمر
ويسير من الطعام وكسرة
خبز
ان كان رأسي خاليا من
همَ المال والثراء
وركلت برجليّ الطمع
لا أحني هامتي لأحد
ولا أحيد عن طريق حق
يشدبيكةس معاقرة
الخمر بالموقف من السلطة ومن الحياة، حيث تمنحه الخمرة طاقة قصوى في الوقوف بوجه
مغريات الدنيا، إذ تميد ثرى شهوة المال والغنى تحت قدميه، تاركا دنيا الثراء كوم
ركام، رافعا قامة الفقر فوق بطاح الغنى، باحثا عن سفر الخلود بغطاء من فقر مشرف،
وهامة مرفوعة ووجيب روح تمور أبدا بنشوة الحرية والخلاص النهائي من الكوابح
الاجتماعية التي تحاصر روحه حصار المبراة للقلم. يلاحظ الباحث ان بيكةس في البداية
يبحث عن الخمر كمتعة وقتية زائلة، حيث يعاقرها مع بعض من ندمائه، لكن الأحباطات
السياسية على الصعيدين القومي والفردي، وفقره المتواصل والتخلف الفكري والحضاري
لواقعه المعاش قد أوقعه في براثن الخمر حدّا يعدّها المنقذ، بل والظل الملازم
لمسيرة حياته التعبى، هذا التحول النوعي من موقفه ازاء الخمر، أي من نشوة عابرة
الى حاجة دائمة، زرع في ثنايا وجدانه بذرة اليأس مرة ولاجدوائية النضال في مجتمع
متخلف مرة اخرى. ان حالتي السكر والصحو وجهان ينتجان العبثية والأرتداد، فذروة
نشوة بيكةس لحظات قصار
تنتهي بصحوة وجع مرّ، فالوقوع المكرر بين هاتين الحالتين ينتج إمّا الانكفاء
والرضوخ أو الوقوف البطولي بوجه السلطة, لقد عايش بيكةس هاتين
الحالتين رغما عنه، لكن التمادى في الوقوف بوجه السلطة سراب يهرع اليها بأقدام
عارية وحشاشة أنفاس لاهثة.
ثمة
علاقة وثقى بين عيون قصائد بيكةس وعالم الفقر والجوع، حيث يخط قلمه
المتعب بين أصابعه المرتجفة هتاف الفقراء والمحرومين. لنسمع من أنّات وجدانه
الجريح:
أنا والأفلاس والنحس
وأرتياد المقهى حتى الموت
أنا والكتاتيب وفراش
مهرّء ومدرسة حتى الموت
أنا وبطل عرق أسود
من يواصل الحياة بين
ظهراني هذا القوم الجاهل
من له ذرة عقل فمعذبة
حياته
وتظل انت يا بيكةس حيرانَ
مشردا
ذلكم
هو عذاب العبقري الذي يسبق عصره، حيث يظل الوطن أمامه مقبرة، وساكنوه موتى أو في
أحسن الأحوال نيام، ان بيكةس يتنقل في شوارع وأزقة السليمانية حاملا
صندوق بيع السجائر، ويكسب رزقه الرخيص بعد ان سد كتَابه، حيث يفضل هذا العمل على
مهادنة السلطة ومساومتها، لوكان ساكتا عن المطالبة بحق الناس والوطن لأمطرت عليه
السلطة المال والثروة، لكنه فضل شرف الجوع والفقر وظل مع الشعب ساغبا، ان موقف بيكةس يذكرني
بالرصافي الذي هو الآخر يبيع السجائر في شوارع بغداد، أما احمد صافي النجفي وحسين
مردان فتجرّعا أكؤس الفقر كبيكةس، أمّا ابوحيان
التوحيدي فهو الآخر ضاق بالفقر حدّاً كاد ان يجعله كافرا إذ وُشي بمروقه عن الدين،
وأوشك ان تناله مقصلة الوشاة، لم يبعد أحد من وجهاء بغداد عن التوحيدي العوز
والتكفف، حيث ظل ساغبا مع الرعية شادَا حزام الجوع، باحثا عن كسرة خبز، لنسمع من
أنات روحه المعذبة، إذ يخاطب الوزير أبا الوفاء المهندس (خلصني ايها الرجل من
التكفف، أنقذني من لبس الفقر، أطلقني من قيد الضر، أكفني مؤونة الغداء والعشاء،
الى متى الكسيرة اليابسة والبقيلة الذاوية والقميص المرقع؟ الى متى التأدم بالخبز
والزيتون؟ قد أذلني السفر من بلد إلى بلد وخذلني الوقوف على باب باب).
لنطالع
احدى قصائده باللهجة العامية العراقية ذي النكهة النقدية الساخرة التي يشكو فيها
من قلة الراتب وحياة الموظف البائسة وضعف الترفيع وعدم كفاية الراتب لمصاريف
العائلة:
قريت في جريدات ترفيعات طالعات
بكل دائرات ماكو أبد مغدورات
أمّا الآني فمسكين أكو ترفيع تأخيرات
معاشاتي قليلة ثمانية دينارات
إذا أشترى حنطة دهن ماكو في كوبات
مدير العام النفوس مايشوف الأحوالات
مايعرف بالمدرسة عندي تنين أولادات
مصرف يريدون كثير الجاكت والبانتولات
أم الأولاد خصوصا يريدها عزيزيات
كم كتانجين و كريم والقبا روح الحياة
والحاصل ثريشانين احنه من كل الجهات
ارفعني من ثمانية الى حدّ العشرات
كما
وينبغي ان نعرف ان لبيكةس محاولات في نقد شعر أ.ب.هةوري و ميرزا مةنطوري، ولهجته في
ذلك قاسية، حيث نشرها في مجلة كلاويز، كما و لبيكةس ترجمة من
العربية والفارسية الى اللغة الكردية، ناهيك عن اهتمامه بأدب الأطفال، حيث نظم
قصائد للأطفال وحولها الموسيقيون والمنغمون الى أناشيد مدرسية في غاية الروعة، إذ
تعج هذه الأناشيد بالمضامين القومية والوطنية والأنسانية,ولاتزال طلاب المدارس في
كوردستان يرددون هذه الاناشيد.
ألقيت هذه الدراسة في احتفالية الذكرى السابعة و الستين |